البحث العلمي الحاضنة المركزية لجامعات عربية منتجة
يعيش في هذه المرحلة العديد من التحولات الشاملة والمتلاحقة التي تركت تأثيرات واضحة في كافة مجالات الحياة ومن أبرزها النظم التعليمية، كما انعكس تأثيرها كذلك على مؤسسات المجتمع بمختلف نظمها وأشكالها وأحجامها. ولعل من أبرز هذه التحولات تأثيرات جائحة كورونا، الأزمات الدولية، التقنيات العلمية والمعرفية والتكنولوجيا الرقمية المتسارعة، الأمر الذي يتطلب من الجامعات العربية إعادة النظر في طبيعة علاقتها بمجتمعاتها، والعمل بكفاءة على تعظيم ترسيخ مفهوم الشراكة المجتمعية للجامعات، فالجامعات تشكل دورا بالغ التأثير والأهمية في إنتاجية المجتمع، من خلال ما تنتجه من المعرفة، واستثمار ذلك الإنتاج العلمي والفكري في زيادة الثروة البشرية، ورفع كفاءة الإنتاجية، لتحقيق النهضة ولمسايرة العالم بخطى واثقة.
أصبحت جامعاتنا العربية في ظل التحولات المذهلة مطالبة بأن تقوم بالإضافة إلى وظائفها المعتادة بوظيفة أساسية للغاية تتمثل في اعتناق نموذج الجامعة المنتجة، كون "الجامعة المنتجة" أصبحت تمثل استجابة حقيقية لاحتياجات منظومة الجامعات والبحث العلمي في الوطن العربي، وبالنظر إلى واقع التعليم الجامعي ومنظومة البحث العلمي عربيا، نجد أن هناك العديد من التحديات والمشكلات منها: المتعلقة بسياسة التمويل، وضعف العلاقة بين الجامعة والمجتمع بمؤسساته المختلفة، وغيرها من المشكلات والتي يمكن علاجها من خلال تبني جامعاتنا العربية لنموذج الجامعة المنتجة تلبية لاحتياجات مجتمعاتها المحلية، ولأجل توفير التمويل اللازم لتطوير الجامعات ومراكز البحث العلمي.
الجامعات المنتجة تمثل تنظيما يرتبط فيه التعليم بالبحث العلمي ارتباطا وثيقا ويربطها بحاجات المجتمع، على اعتبار أنها مؤسسات منتجة للمعرفـة، وتشكل جزءا مهما وأساسيا في معالجة الأزمات التي تعصف بالمجتمع، كما يشير مفهوم الجامعات المنتجة إلى خلق تغيرات جوهرية في سياسات واستراتيجيات التعليم العالي، واستحداث آليات ابتكارية من أجل تحقيق عائد مالي أفضل للجامعة ورفع كفاءة الثروة البشرية وتنميتها، ويعتبر نموذج الجامعات المنتجة نموذجاً مرناً يحقق التوازن بين الوظائف الأساسية للجامعات فلا يتعارض مع المفهوم العام للجامعات، وإنما يتعداه إلى ممارسة النشاطات الإنتاجية المناسبة للعملية التعليمية، الأمر الذي يحقق موارد مالية إضافية، ويقلل من اعتماد الجامعات على التمويل الخارجي ولا سيما مع تعاظم الأزمات الدولية وضعف سياسات التمويل للعديد من الجامعات العربية، كما لا يمكن اعتبار الجامعات كمؤسسات إنتاجية تتصرف كالشركات وفق هذا النموذج، فالجامعات لها أهداف تختلف عن تلك التي تسعى إليها الشركات التجارية، فالمهمة الأساسية للجامعات هي التعليم والبحث العلمي وخدمة المجتمع.
إن التحديات المحلية والدولية تفرض حتمية تطوير دور الجامعات العربية في البحث العلمي لمواجهة المتغيرات المتعاظمة في شتى المجالات، بحيث يراعي تجديد أنماط المعرفة الأكثر استحقاقاً واستخداماً للمجتمع، وكيفية استثمار نتائج البحوث العلمية لتحقيق طموحات المجتمع في التنمية الشاملة في جميع المجالات. إن تطوير ودعم البحث العلمي في بيئة الجامعات المنتجة يعمل على تزويد المؤسسات المجتمعية بالإمكانيات المعرفية والتقنيات المتطورة، والخدمات الاستشارية للإسهـام في ايجاد حلول للمشاكل الإدارية والمالية والاقتصادية وغيرها، والتركيز على اختيار التكنولوجيا المناسبة للمشاريع، وإعداد البرامج والنظم التي تسهم في البناء الاقتصادي للمشاريع وتنمية الموارد ودرء المخاطر الاستثمارية وتحقق استمرارية المشاريع، كذلك يعتبر البحث العلمي مورد ثمين لمساعدة الجامعات المنتجة لتنويع مواردها الاقتصادية والاعتماد على إمكاناتها الذاتية، ولتحقق الجامعات رسالتها كجامعات منتجة يجب أن تنطلق فلسفتها ورؤيتها من حاجات المجتمع والموارد الاقتصادية المتاحة لها، واستثمار المعرفة استثماراً اقتصادياً.
من المؤكد أن تقدم المجتمعات والدول ونهضتها مرهون بتفوق وتطور جامعاتها لأنها تمثل الحاضنة المركزية لكل الابتكارات وتبني المبدعين والمتميزين من أفراد المجتمع، وبالنظر إلى حال جامعاتنا العربية فهي في حاجة بالغة إلى التحول إلى جامعات منتجة تسهم في دفع عجلة التطور والازدهار ومواجهة الأزمات في مجتمعاتنا العربية. ويمكن القول من خلال خلاصة التجارب العالمية الرائدة في ضوء نموذج الجامعات المنتجة عبر التحول النوعي في أدوار الجامعات، وتوجهها نحو استثمار المعرفة استثماراً اقتصادياً، أنها تساهم في تحقيق وبناء مستقبل أفضل للإنسان والمجتمع، على قاعدة تعزيز التنمية المستدامة، وتفعيل مشاركة المؤسسات المجتمعية المختلفة في معالجة الأزمات والتحديات، وتركيز الجهود الفاعلة المشتركة بين الجامعات المنتجة ومراكز البحث العلمي لديها والمؤسسات المجتمعية على قاعدة تكامل الأدوار وتحقيق المصالح العامة، إضافة لمسؤولية الجامعات في الحفاظ على الذاتية الثقافية وتحقيق التعليم المستمر، وأنها تمثل أعظم مصانع إنتاج القيم والحضارة الإنسانية.
*خبير في البحث العلمي والدراسات